رُزئت الساحة التشكيلية المغربية، فجر السبت (2 أبريل 2016)، برحيل الفنان حسين موهوب، الذي كان ممن اختاروا الإبداع في مجال التصوير والنحت والتنصيبات الفنية والإنشائية.
وقد استطاع الراحل، رغم عصاميته، أن يختطّ لنفسه مسارا إبداعيا مميزا طيلة نصف قرن، توّج بحصوله على عدة جوائز واستحقاقات دولية، وفي رصيده العديد من المعارض التشكيلية آخرها المعرض الفردي المقام قبل أشهر في رواق باب الرواح (الرباط) الذي تميز بعودته القوية للتجريد، بعد أن مكث وقتاً طويلاً يحاكي تناغميات الشكل والخط واللون مفرداته التعبيرية الرئيسة.
إبراهيم الحيْسن: توليف صباغي دينامي
وفي شهادة لـ«القدس العربي» عن الراحل، قال الفنان والباحث التشكيلي إبراهيم الحَـيْـسن: «منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وبعد أن بدأ تجريديا يحاكي المادة ويسائل تحوُّلاتها البصرية فوق السند، قضى الفنان التشكيلي حسين موهوب وقتا طويلا ينجز لوحات تشخيصية موسومة ببناءات هندسية متقايسة، تؤكد ولعه واهتمامه بالفنون الشعبية الإيقاعية موضوعاً جمالياً ومصدراً للإيحاء والاستلهام.. بل وتكشف عن افتتانه بموضوع الموسيقى الذي لا يتورع في نقلها على مسطح اللوحة بأسلوبه التشخيصي الهندسي الذي يستمد طابعه التشكيلي من التناغميات الحسية للخط والشكل واللون (مفرداته التعبيرية الرئيسية)، وفق توليف صباغي دينامي تتفاعل فيه المقطعات المساحية والسطوح المنبطحة والكتل اللونية وخطوط الإحاطة المميزة لأسلوب الرسم لديه. فالفنان حسين موهوب يعرف جيدا كيف يمزج في أعماله التشكيلية بين تصويرية هندسية شاخصة قوامها التلاؤم القائم بين الخط والشكل واللون وجمالية الموضوع المستلهم (غالبا) من التراث المغربي الإيقاعي الأصيل الغني برموزه وطقوسه وعوائده الشعبية، وفي مقدمتها مظاهر الأفراح ولحظات الاحتفال الاجتماعي.. فهذا التوظيف المتشاكل للمفردات التعبيرية، يجعل من اللوحة عالما (أو عوالم) صباغيا مفعما باحتفالية الألوان وشطحات الخطوط والأشكال، ويعبر عن تعلق الفنان بعادات وتقاليد بلاده، بل يمثل طبيعة انتمائه وتفكيره المحلي والتراثي.
عقب هذه الرحلة الإبداعية الطويلة والشاقة، سيطالعنا الفنان موهوب بمنجز تصويري مغاير يعكس لديه اشتعال حنين العودة إلى التجريد ومحاورة المادة وحرية الانتشار الخطي واللوني فوق السند.. في قماشاته الصباغية الأخيرة نزوع واضح نحو التوليف الغنائي، لكن من نوع خاص حيث فوضى الخطوط والتباس العلامات والتكاوين التجريدية الناتجة عن تكسير النماذج المرسومة التي تقرر حالات الشخوص والأجساد المتشظية والممزقة تمزيقا. من دون أن ننسى مساهمة الفنان موهوب كذلك في مجال النحت والجوَّانيات ودوَّارات الهواء والستائر الفنية. ويُعتبر من الفنانين المغاربة والعرب القلائل الذين أبدعوا في هذا الصنف من الفن التشكيلي، شاهد ذلك مشاركاته العديدة بمعارض فنية متخصصة نظمت في فرنسا ولوكسمبورغ وبلجيكا وغيرها بمشاركة نحاتين عالميين مرموقين.
على مستوى الاستحقاقات، حظي الفنان حسين موهوب قبل سنوات بتكريم من طرف المؤسسة الأكاديمية للتربية والتشجيع في باريس (المؤسسة عام 1915)، إلى جانب مبدعين ينتمون لبلدان مختلفة من بينهم النحات الفرنسي جونا هاير، والرسام الاسباني غوميز غالان، والنحات البرازيلي مارسيليو نيفيس، والمصور الصيني شوفانغ وانغ، والرسام الياباني ميشيكو يامادار. إلى جانب الكاتب والشاعر البرازيلي أبيلو كاك، والمصور الإيطالي ريناتو سارتانيتو. ويأتي تتويج الفنان موهوب وتكريمه حصيلة حضوره ومشاركاته المتنوعة في مجموعة من الملتقيات التشكيلية في فرنسا، أبرزها اختياره ضيف شرف خلال النسخة العاشرة للصالون العالمي في الصباغة والموسيقى في سان برتلمي دانجو عام 1999 إلى جانب النحات العالمي جيل لامور.
رحم الله الفقيد… كان رحيله صادماً».
محمد الشيكر: موسيقى الأشكال
وقال الناقد والباحث التشكيلي محمد الشيكر لـ«القدس العربي»: «يعدّ حسين موهوب أحد أبرز العلامات الفارقة التي مهرت المنجز البصري في المغرب، وأسهمت في تحديد مداراته ومساراته. ولد الفنان الراحل حسين موهوب في حاضرة النخيل، مراكش الحمراء، سنة 1945، ودرج بين مرابضها وواحاتها وأزقتها وحمايتها، وافتتن ببهائها الاستثنائي وألقها التاريخي وثراء بلاغتها اللونية. ثم قيّض له، في ميعة شبابه، أن يغادرها شطر مدينة مكناس، وهي حاضرة أخرى من حواضر المغرب التاريخية. وبها أسلم الروح إلى بارئها، وقدم لنا أبدع وأروع لوحاته ومنحوتاته. وعلى الرغم من أن فناننا الراحل لم يقدر له أن يمكث طويلا في فصول الدرس والتحصيل، إذ سرعان ما تلقفته الحياة العامة بصروفها وتقلباتها وقلقها الأنطولوجي، إلا أنه لم يفك ارتباطه الوثيق بمحافل الأدب ودوائر الفن، وظل مهجوسا بسؤال الإبداع، ولم يفارقه ملونه وريشته في تطوافه الطويل بين المغرب وأوروبا. وكان أول معرض فردي أقامه حسين موهوب سنة 1966، وهو في مستهل عقده الثاني، بالمركز الثقافي الفرنسي، في الحاضرة الإسماعيلية.
ولأن تجربة البداية كانت مثيرة، فلقد جعل موهوب أنظار المهتمين الفرنسيين تتجه إلى فرادة ميْسمه الفني والجمالي في حقبة تاريخية مخصوصة تميزت بهيمنة الخطاب الطليعي والحداثي على المتن الإيقونوغرافي المغربي. كان حسين موهوب فنانا عصاميا، لم يرتد مدارس الفنون الجميلة، ولم يتلق أي تكوين أكاديمي. لهذا جاءت أعماله الفنية متحللة من المعايير المأنوسة، ممهورة بملامح التفكيكية الرمزية؛ حيث تنتفي فيها العلاقة المرآوية مع دقائق ومفردات العالم الفيزياء، مثلما يغيب فيها التقيد الدوغمائي بالمعايير الفنية والمواثيق الجمالية المكرسة. وهذا ما جعل بعض المحافل الفنية الطليعية في فرنسا تلتفت لمنجزه الجمالي وتهتم به، حيث نظم له كاراتيه معرضين فنيين متتاليين تزامنا مع اندلاع انتفاضة أيار/ مايو 68 الطلابية الشهيرة. وعلى هذا المنوال، ظل الراحل يعرض أعماله الفنية متراوحا بين المغرب وفرنسا، في إطار تظاهرات فنية ومعارض فردية وجماعية، حظي خلالها بعدد تتويجات، من أبرزها حصوله على ميدالية مدينة شولييه الفرنسية وميدالية سانت بيترلمي بانجو في فرنسا وسواهما من الاستخبارات ذات العيار الكوني.
ومع مطلع السبعينيات، طفق حسين موهوب في إنجاز أعمال فنية يمتزج فيها الملمح التشخيصي مع السمت التجريدي الهندسي للأشكال، كما تتماهى فوق مسطحاتها الخطوط الأوقليدية والكتل الكروماتية النابضة بالحياة والفائضة بالحركة. بل إن كلفه بالموسيقى وبمقاماتها النغمية المتصادية وإيقاعاتها البوليفونية ساقه إلى نقل تجربة الإيقاع والتصادي السامفوني إلى سطوح لوحاته. ومن ثمة لم يعد يأسر على العين الحصيفة أن تستولي رقصات الخطوط وتناغم الأشكال، وتوالف المساحات والتشكيلات والألوان وتجانسها الموسيقى الآسر.
وقد تكشفت هذه الموسيقى البصرية الجائزة في منجزه التشكيلي الذي قدمه، على امتداد ثلاث دورات متعاقبة، مع متم القرن المنفرط.
على أن متن حسين موهوب التشكيلي لم يقتصر على الرسم والصباغة، بل تعداه إلى إنجاز الستائر الفنية ونحت مقطعات الحديد وتشكيل دوارات الهواء، بوعي بصرى يمزج بين التعبيرية والشعرية الرمزية. وفي أواخر حياة الراحل بدأت مقاربته الهندسية للأشكال والخطوط تتحرر تدريجيا من صرامة المدارات والحنايا والزوايا، لتبدو أكثر انفلات وفلتانا وتموسقا وشاعرية، كما بدأت الأجساد والكتل تفقد ملامحها الفيزيقية الظاهرة لتغدو مبطنة، مائعة، نزاهة إلى الانمحاء والتشظي، وكأنها انتقلت من مستوى الرؤية الحسية إلى صعيد الرؤية الميتا – حسية، ومن عتبة الإدراك الاختباري إلى مدارج الاستغوار الميتافيزيقي للعوالم المستترة. لهذا فقد حظيت أعماله الفنية بالاهتمام والتجاوب، وتنبهت أقلام نقدية عديدة إلى ملامحها الفارقة، وكتب عنها الكثير.
رحل الفنان حسين موهوب عن الوجود، وعن الحياة الفنية خلسة، تاركا خلفه متنا بصريا شديد الغنى والتنوع والفرادة، وكان رحمه الله يعد لإنجاز مونوغرافيا فنية شاملة توثق لتجربته الجمالية، وترصد خرائطها ومرجعياتها، وتستقرئ مفرداتها البصرية المفصلية، انطلاقا من نصوص للقاء وباحثين جماليين واكبوا أعماله من أفقها الإستتيقي المائز. نتمنى صادقين من الجهات الوصية على الحقل الفني الوطني أن تعمل على اخراج هذه المونوغرافيا إلى حيز الوجود، وأن تعمل على تحقيق هذه الأمنية التي كان الراحل يربطها بمرور نصف قرن كامل غير منقوص على أول معرض فني له سنة 1966.»
عبد الله الشيخ: تداخل المجالات المعرفية
ويقول الناقد الفني عبد الله الشيخ (أستاذ تاريخ الفن في المدرسة العليا للفنون الجميلة في الدار البيضاء): «لا يجادل أحد في كون الفنان حسين موهوب من نماذج الفعل التشكيلي الحديث الذي يراهن على أفق الحس والمتخيل والرؤية، لتدارك أحادية المعنى والدلالة. كما يعيد الاعتبار للمتن الصباغي داخل منظومة الاتصال والاستهلاك وتعدد الوسائط. إن تجربة هذا الفنان لا تنهض فقط كشكل تقني بحت، بل كمستوى عميق من مستويات التفكير والتمثل البصري للكيان المغربي بكل حمولاته الواقعية والرمزية. فعلى السند المسطح، يظل الهوس بالإيقاع والحركة قائما عبر الخطوط المناسبة والألوان المتراكبة والأشكال الهندسية المجردة التي تعكس تاريخا خاصا للنظر، وتستدعي بالضرورة خطابا ملازما يجعل من تداخل المجالات المعرفية أساسه الفكري والنظري.
إن خصوصية الفنان موهوب تتأكد من خلال ذاته وهويته، فتراه يستثمر كل روافد خزانته الرمزية وذاكرته البصرية في أعمال مشبعة بالاختيارات الواعية والانشغالات الجماعية الحداثية. إنه ينطلق من «ازدواجية تصويرية»، ليؤسس لأصالته المعاصرة، بعيدا عن الاجترار والتقليد والتنميط، بشكل يستجيب لأفق السياق والزمن والذات.
وتحفل تجربة الفنان موهوب بمفردات فنية متميزة ولغة حداثية قائمة على البحث التجريدي في اللون التعبيري والشكل التحليلي، وهي تجربة تنم عن خبرة بصرية ومعرفة واضحة المعالم وعميقة الأبعاد».
الطاهر الطويل